تبدأ الحياة بلُغْز، ففي رحم الأم، وبعيدًا عن الأنظار، تتحول ثلاثة بلايين حرف من شفرة الحمض النووي (DNA) - بطريقة ما - إلى أجسام ثلاثية الأبعاد، وذلك في غضون 40 أسبوعًا فقط. تتكون عينا الجنين، ومخه، وقلبه، وأصابع يديه، وقدماه خلال عمليات منسَّقة بدقة شديدة من ناحية الزمان والمكان. وقد جمع علماء الأحياء أجزاءً من هذا اللغز، ولكن لا يزال هناك الكثير من الثغرات.
في الوقت الراهن، تَطرح مجموعةٌ من التقنيات الجزيئية أمام العلماء إشارات محيرة بشأن كيفية ملء تلك الثغرات. وتسهم الوسائل المطورة لقراءة وتفسير المعلومات الخاصة بالمادة الوراثية للجنين في الكشف عن عدد كبير من الجينات ذات الصلة بالتطور البشري، كما تتيح تلك الوسائل للباحثين الفرصة لاستراق السمع، والتنصت على همهمة النشاط الجيني قبل الولادة. فقد صار بإمكان هؤلاء الباحثين رؤية أيّ من الجينات يعمل، وأيها يتوقف عن العمل في اللحظات المحورية، واستشعار كيف تغذي العوامل البيئية تلك العملية، أو تعطلها.
فقد بدأ نظام دعم الحياة الأساسي - أي "المشيمة" التي نتخلص منها عند الولادة - يكشف لنا عن أسراره. يقول زيف ويليامز، أخصائي الغدد الصماء الإنجابية بكلية ألبرت أينشتاين للطب في مدينة نيويورك: "إنها حقًّا لغز كبير في عملية الإنجاب. فمِن الواضح أن المشيمة تمثل جزءًا بالغ الأهمية من التطور البشري، ولكنها لم تخضع لقدر واف من الدراسة حتى الآن".
وحتى وقتنا الحاضر، يَعتمد العمل في معظم أجزائه على عينات من السائل السَلَوِيّ، أو من المشيمة، تم الحصول عليها أثناء الاختبارات التَّدَخُّلِية الروتينية، مثل سَحْب عينة من السائل المحيط بالجنين. وحاليًّا، يضع العلماء نصب أعينهم الخطوة التالية، ألا وهي تطوير أبحاث غير تَدَخُّلِية خاصة بالجنين، يمكن إجراؤها على عينة دم صغيرة تُسْحَب من ذراع امرأة حامل. وبهذه الطريقة، يمكن للباحثين مراقبة الأجنة في مراحل النمو المختلفة؛ ومن ثم تطوير اختبارات غير تَدَخُّلِية لمجموعة كبيرة من الحالات، لدى كلٍّ من الجنين، والأم.
ينتقل الأطباء - في الوقت الراهن - إلى علاج الأجنة في الرحم على أساس تلك التشخيصات. يقول مارك كيلبي، أخصائي طب الأجنة بجامعة برمنجهام بالمملكة المتحدة: "إنه لوقت مثير"، لكنّ الأمر لن يكون مجرد نزهة، فالتقنيات تتطور حاليًّا بشكل سريع، لدرجة أن العلماء يعانون أشد المعاناة في تفسير المعلومات الناتجة عن تلك التقنيات، كما أنهم يواجهون مآزق أخلاقية معقدة. فعلى سبيل المثال، ماذا يجب على الأطباء أن يفعلوا، إذا كَشَفَ لهم اختبار غير جراحي ما قبل الولادة (NIPT) عن وجود تسلسل للحمض النووي، قد يتسبب أحيانًا - وليس دائمًا - في حدوث مرض ما؟ يقول الاختصاصي الإكلينيكي وعالِم الوراثة دينيس لو من الجامعة الصينية في هونج كونج، الذي كان أول مَن اكتشف وجود الحمض النووي للجنين في دم الأم: "ذلك ما يجب علينا مناقشته كمجتمع بأكمله".
أعمال التطوير
من الطبيعي تمامًا أن يبدأ استكشاف تطوُّر الجنين من خلال دراسة الحمض النووي، الذي يُعَدّ كلمة السر لهذه الحياة. لقد قام علماء الأحياء التطورية بالفعل بجمع كنز من المعلومات في هذا الإطار، وذلك من خلال الأبحاث التي أجروها على حيوانات المختبر، بدايةً من الديدان، وانتهاءً بالفئران. وقد تعرفوا أثناء تلك الأبحاث على الكثير من الجينات والعمليات التي لها ما يعادلها لدى البشر. كذلك أسفر العمل البحثي الدؤوب على الأُسَر المصابة بأمراض جينية موروثة عن رؤية أكثر عمقًا.
إنّ الجيل الجديد من تقنيات تسلسل الحمض النووي من شأنه نقْل هذا المجال نقلة نوعية. فقد أصبح الآن من السهل نسبيًّا رسم خريطة تسلسل الجينوم، سواء الجينوم الكامل، أم جزء منه؛ للبحث عن أسباب الاضطرابات الوراثية النادرة. وما زالت الاكتشافات تتوالى وتتراكم، ومن بينها - على سبيل المثال، لا الحصر - كيفية إرسال أنواع من البروتينات الرئيسة إشارات للخلايا، من أجل توجيهها حتى تبني هويات مختلفة لا حصر لها ولا عدد، وكيف تؤثر توليفة معينة من الحمض النووي على تطور الدماغ. يقول ماثيو هيرلز، عالِم الوراثة بمعهد "وِيلْكَم تراست سانجر"، الذي يقع بالقرب من كمبريدج بالمملكة المتحدة: "فَهْمنا للموضوع يتطور في مسار متسارع وغنِيّ جدًّا".
وحتى الآن، قامت غالبية الدراسات بتحليل الجينوم بعد الولادة، ولكن الباحثين يدفعون في اتجاه استخدام المناهج نفسها على الأجنة في الأرحام، على أمل تحسين عمليات التشخيص والتكهنات الممكن تقديمها إلى الآباء الذين يترقبون ولادة أطفالهم. فعلى سبيل المثال، يقوم هيرلز وزملاؤه حاليًّا بدراسة 1000 جنين مصابين بتشوهات بنيوية، تم رصدها من خلال التصوير بالموجات فوق الصوتية. ومن خلال استخدام خلايا مستخرَجة من الجنين، والأم، والأب، يقوم الفريق بعمل تسلسل لنسبة الـ1-2% من الجينوم الذي يحمل تعليمات تصنيع البروتينات (الإكسوم)، إلى جانب الجينومات الكاملة لمجموعة فرعية أصغر، وذلك في محاولة للتعرف على الجوانب الوراثية التي تقف وراء الاضطرابات.
ومع ذلك يرغب الباحثون في المضيّ نحو آفاق متقدمة، والقيام بوضع تسلسل لجينومات كاملة للأجنة باستخدام عيِّنات دم مأخوذة من الأم. من شأن ذلك أن يمنحهم القدرة على الوصول المباشر إلى الحمض النووي في جميع مراحل تطور الجنين تقريبًا، سواء لدى الأجنة الأصحاء، أَم لدى غيرهم ممن يُحتمل أن يعانوا من مشكلات.
"فهمنا للموضوع يتطور في مسار متسارع وغني جدا".
يقول الباحثون إن ذلك النهج واقعي، فالمجال يتقدم بسرعة، حيث أسهمت موجة من الأوراق البحثية - من تأليف لو، وستيفن كويك بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا، وعالِم الجينوم جيه شيندور بجامعة واشنطن في سياتل - في زيادة الدقة التي أَمْكَنَ للعلماء بواسطتها تحليل جينوم الجنين، عن طريق قِطَع صغيرة من حمضه النووي، تطفو في دم الأم. فقد بات بإمكانهم الآن حصر عدد الكروموسومات لدى جنين ما، وهم يقومون حاليًّا بتطوير وسائل أكثر دقة من ذي قبل؛ لوضع تسلسل للجينومات. من حيث المبدأ، يمكن للعلماء الآن تحديد متغيرات قد تطول حرفًا واحدًا فقط في تسلسل الحمض النووي، من شأنه أن يتسبب في أمراض وراثية. كما أنهم يقومون بتوطيد قدرتهم على اكتشاف الطفرات التي تمثل أساسًا لبعض اضطرابات النمو، وإن كانت غير موجودة لدى أيٍّ من الأبوين. وقد أُنشئت شركات عدة لتطوير تلك التقنيات.
ثمة عوائق لا بد من تخطِّيها، قبل أن تصل أحدث التقنيات إلى مرحلة الاستخدام واسع النطاق في المختبر، أو في العيادة. ومن بين تلك المعوقات مسألة التكلفة. فتكلفة وضع خريطة كاملة للجينوم في انخفاض مستمر، ولكن الباحثين غالبًا ما يحتاجون إلى تكرارها مرات كثيرة؛ لتعزيز نتائجهم. وبالرغم من ذلك.. فإن الباحثين يثقون بأن تلك المعوقات لن تستمر طويلًا. يقول شيندور: "هناك عمل مطلوب أداؤه في هذا الإطار، ولكن ذلك لا يمثل مشكلة مستعصية على الحل من المنظور التقني".
وتشكِّل عملية تفسير النتائج واحدة من نقاط الخلاف الأخرى. فالتغيرات في الحمض النووي لا تؤدي جميعها إلى حدوث اضطرابات. وحتى لو حَمَلَ شخص ما طفرة معينة، فليس بمقدور العلماء بَعْدُ التأكدَ من أنها ستكون سببًا في حدوث المرض.
وطالما استمرت التكلفة في الانخفاض، حسب ما يقوله العلماء، فسوف يتمكنون من وضع تسلسل لعدد كافٍ من الجينومات؛ من أجل معرفة أيّ مِن الطفرات تتنبأ بوجود احتمال كبير لحدوث اضطرابات. ومن ثم، يأمل هؤلاء العلماء في رؤية آليات تسلسل الجينوم الكامل الذي يتم الحصول عليه بطريق غير باضعة، لتطبق كوسيلة فحص أثناء الحمل. يقول كويك: "هذا هو الأمر الذي يمكن أن نتخيل أن يصبح مفيدًا للغاية في تشخيص الاضطرابات الاستقلابية، والمناعية في الحالات التي نرغب فيها بعلاج الطفل بعد الولادة مباشرة".
يمكن أن يكون ذلك أيضًا من بين الخيارات المتاحة، حتى قبل الولادة. ويقوم حاليًّا فريق من العلماء باستخدام الجيل الجديد من تقنيات التسلسل لجينات معينة؛ بهدف تشخيص مرض هشاشة العظام لدى الأجنة، كجزء من تجربة إكلينيكية تَستخدِم الخلايا الجذعية في علاج هذه الحالة داخل الرحم. ويحصل العلماء في الوقت الراهن على الخلايا الجنينية من خلال سَحْب عيِّنات بطريقة جراحية باضعة، ولكنهم يهدفون إلى الوصول إلى إمكانية استخراجها بطرق غير جراحية.
نَصّ كامل
لا يمثل الحمض النووي سوى بداية قصة تطوُّر البشرية. ولذا.. يحرص الباحثون على فَهْم كيف يتم توزيع التعليمات الموجودة في الجينوم زمانيًّا ومكانيًّا أثناء تطور الجنين، وكيف يحدث خلل في تلك العملية في الحالات المرضية. ومن ثم، يركِّز كثيرٌ من الباحثين حاليًّا على الحمض النووي الريبي للجزيء، الذي تستخدمه الخلية لنسخ مجموعة معطاة من تعليمات الحمض النووي، ومن ثم العمل وفقًا لها. يطرح ذلك الأمر تحديات جديدة، فالحمض النووي الريبي ينقسم بسرعة كبيرة، ومن ثم يكون التعامل معه أصعب من التعامل مع الحمض النووي، وبخاصة عند محاولة القيام بفك مُخرَج الجنين من الحمض النووي الريبي، أي مجموعة المُنتسخات الخاصة به "الترانسكريبتوم"، عن تلك الخاصة بالأم.
ولتبسيط الأمور بدأت المتخصِّصة في الطب الإكلينيكي، وعالمة الوراثة ديانا بيانكي - التي تشغل حاليًّا منصب مدير "المعهد الوطني لصحة الطفل والتطور البشري" في بيثيسدا بولاية ميريلاند - بدراسة مجموعة المُنتسخات الخاصة بالسائل السلوي، التي يطفو فيها الحمض النووي الريبي من الجنين والمشيمة بِحُرِّية. وعلى مدار العقد الماضي، قام فريق العمل الخاص ببيانكي بتجميع لقطات مثيرة للنشاط الجيني خلال الثلثين الثاني والثالث من الحمل (من عيِّنات مهملة، تم الحصول عليها أثناء اختبارات استخراج عينة من السائل السلوي)، وكذلك في وقت الولادة (من عيِّنات تم تجميعها أثناء عمليات الولادة القيصرية)، إضافة إلى بعض التجارب على دم الأم، الذي يحمل أجزاء من الحمض النووي الريبي الخاص بالجنين، والأم، والمشيمة.
"لا يمكن تلخيص المسألة في أن كل الأمور تتحسن، ولكن هناك جوانب معينة تحقِّق تحسُّنًا بالفعل".
أظهرت بيانكي كيف أن الجنين مكتمل النمو يقوم بتحفيز أنواع محددة من الجينات، التي تُعِدّ الطفل للخروج إلى النور، بما في ذلك تلك الجينات المحفِّزة لاكتمال فسيولوجيا الرئتين والأمعاء، ولعملية استقلاب الطاقة، ولجهاز المناعة، وللعين. كذلك يزيد نشاط الجينات ذات الصلة بحاسة الشم أيضًا "وهو الأمر الذي نعتقد أن له ميزة تطورية نوعًا ما، لأن المولود يحتاج إلى التعرف على رائحة أمه، كأحد العوامل التي تساعده على البقاء حيًّا"، حسب قول بيانكي.
ركَّزت بيانكي _ في جزء كبير من عملها - على عينات السائل السلوي المأخوذة من أجنة مصابة بتشوهات في الصبغيات، مثل متلازمة داون (نسخة زائدة من الكروموسوم 21)، ومتلازمة إدوارد (نسخة زائدة من الكروموسوم 18). اكتشفت بيانكي أن النشاط الجيني يكون مختلًّا على امتداد الجينوم بأكمله، ليس فقط في الكروموسوم الزائد، وإنما أيضًا في الجينات الضرورية لتطور الدماغ. كذلك وجدت بيانكي أن خلايا الأجنة المصابة بمتلازمة "داون" تتعرض للتلف من المنتجات الفرعية لعملية الاستقلاب، وهي حالة تُعرف باسم "الإجهاد التأكسدي".
تثير هذه المسألة الاحتمال المثير لإمكانية علاج الأجنة في الرحم، والتخفيف من العجز الإدراكي المرتبط بمتلازمة "داون". ولاستكشاف هذه المسألة، قام فريق بيانكي بعقد مقارنة بين بيانات مجموعة المُنتسخات المأخوذة من أجنة مصابة، وأخرى غير مصابة بمتلازمة "داون"، وبين نماذج الفئران المصابة بالمتلازمة نفسها؛ من أجل تحديد النماذج ذات الصلة بالحالة بدقة. بعد ذلك.. قام الفريق بفحص دقيق لقاعدة بيانات للجزيئات التي ربما تعكس بعضًا من الأنماط غير السوية، بما في ذلك بعض الأدوية التي تمت إجازتها للاستخدام البشري بالفعل.
قام أعضاء الفريق بإطعام الفئران الحوامل المصابة بمتلازمة "داون" بأحد تلك الجزيئات، واسمه أبيجينين apigenin. وأظهرت البيانات - غير المنشورة بعد - أن ذاكرة الأجنة قد تحسنت، وظهرت عليها ملامح التطور الأساسية بصورة أسرع من تلك التي لم تتناول أمهاتها المركّب ذاته. تقول بيانكي: "لا يمكن تلخيص المسألة في أن كل الأمور تتحسن، ولكن هناك جوانب معينة تحقِّق تحسُّنًا بالفعل. لقد شجعنا ذلك بقدر كبير".
تبحث بيانكي وغيرها ممن يعملون في هذا المجال حاليًّا عن وسائل للحصول على مزيد من المعلومات التفصيلية عن الحمض النووي الريبي للأجنة، بدون تَدَخُّل جراحي. وحتى وقت قريب، كان ذلك العمل يتم باستخدام أجهزة تُسمى بالمصفوفات المجهرية؛ تتيح للعلماء الكشف عن تسلسلات الحمض النووي الريبي المعروفة. ومع أن تلك الأجهزة لها قيمة كبيرة، فإنها تقدِّم رؤية محدودة، لأن الغموض لا يزال يكتنف الكثير من المعلومات بشأن مجموعة المُنتسخات. وثمة جيل جديد من الأجهزة، يُسمى بتسلسل الحمض النووي الريبي (RNA-seq)، يكشف مجموعة المُنتسخات بكل تعقيداتها، ويحدد كمية كل نوع من أنواع الحمض النووي الريبي بدقة أكبر بكثير من ذي قبل.
أوضح الباحثون أن ذلك النهج ممكن التحقيق. فعلى سبيل المثال، قام فريق كويك في عام 2014 بفحص عينات الدم المأخوذة من نساء حوامل، باستخدام تسلسل الحمض النووي الريبي، بالاقتران مع وسائل أخرى، لاكتشاف الأحماض النووية الريبية التي يُحتمل أن تكون قد نشأت أصلًا في الجنين والمشيمة. ومن ثم، يصبح بمقدور هؤلاء الباحثين تتبع مدى التقدم والتراجع في عملية نسخ الموروثات، عبر فترات الحمل الثلاث جميعها، بما في ذلك نشاط الجينات التي تكون ضرورية للتطور الطبيعي للدماغ. ويقوم العلماء حاليًّا بالبحث عن نُسَخ يمكنها تقديم رؤية بشأن الحالات المتعلقة بالحمل، مثل ما قبل تسمم الحمل pre-eclampsia، وهي حالة يؤدي فيها حدوث مشكلات في المشيمة إلى ارتفاع ضغط دم الأم بصورة خطيرة.
تمثل المشيمة أيضًا محورًا لمشروع تسلسل الحمض النووي الريبي، تحت قيادة ويليامز، وعالِم الأحياء المتخصص في الحمض النووي الريبي توماس توشل بجامعة روكفلر في مدينة نيويورك. يركز الباحثان على الحمض النووي الريبي المجهري (miRNA)، وهو نوع من الحمض النووي الريبي، معروف بأنه يتحكم في نشاط الجينات، على أمل الوصول إلى فهْم لبيولوجيا المشيمة، واستحداث اختبارات للإنذار المبكر في حالات ما قبل تسمم الحمل، وفي غيرها من حالات الحمل الأخرى. فالاختبارات الموجودة حاليًّا، مثل البحث عن البروتين في بول الأم، لا تكشف عن المرض، حتى تكون الأم قد أصيبت بالفعل بتلف في الأعضاء، وفقًا لما يقوله ويليامز. يأمل أعضاء فريق ويليامز في استخدام تقنية miRNA؛ لمراقبة المشيمة بشكل غير جراحي؛ ولاكتشاف ما قبل تسمم الحمل، قبل أن يستفحل الضرر.
لكن هذه الوسائل لا تزال بحاجة إلى مزيد من العمل؛ لضمان الدقة والقابلية للتكرار، قبل الاستفادة من إمكانياتها الكاملة، حسب قول الباحث.
أثر البيئة
يتمثل الجزء الثالث من اللغز في معرفة كيف تؤثر الأحوال داخل الرحم على تطور الجنين. لقد أدرك الباحثون منذ زمن بعيد أن التعرض للعوامل البيئية أثناء تلك الفترة الحساسة من الممكن أن يؤثر على صحة المرء طوال حياته. فالأطفال الذين تمارس أمهاتهم التدخين أثناء الحمل، على سبيل المثال، يتباطأ نموهم في الرحم، وتزداد لديهم مخاطر الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والسمنة، إذ تشير الدراسات إلى أن التدخين يغيِّر مجموعة المُنتسخات الخاصة بالمشيمة.
ومِن بين الوسائل البيئية التي تبين تلك الآثار الصحية ما نراه من تغيّر في العلامات الكيميائية على الحمض النووي، وعلى البروتينات التي تغلف الجينوم، ما يؤدي بالتالي إلى تغير الأنشطة التي تقوم بها الجينات، من دون أن يرافق ذلك أي تغيير في تسلسل الحمض النووي. وتُعَدّ مجموعات الميثيل هي المثال الأكثر دراسة من بين تلك العلامات المرتبطة بعملية التخلق المتوالي، حيث إنه عند إضافة الميثيل إلى الحمض النووي، أو نزعه منه، يسهم ذلك في زيادة أو إخماد النشاط الجيني. يستخدم الباحثون المصفوفات المجهرية حاليًّا - إلى جانب شكل من أشكال تسلسل الحمض النووي يُعرف بالتسلسل ثنائي الكبريتيت - للكشف عن أنماط المثيلة تلك على امتداد الجينوم بأكمله في عيِّنات مأخوذة من دم الأم، ومن الأجنة.
تتضمن تلك الإجراءات المشيمة ذات الأهمية البالغة. ومِن بين المفاجآت التي كشفتها دراسات النسيج المشيمي تحديدًا، وجود ديناميكية عالية لعملية المثيلة المشيمية، حسب قول ويندي روبنسون، عالمة الأحياء التطورية بجامعة بريتيش كولومبيا في فانكوفر بكندا. فالتغيرات الأكثر لفتًا للنظر ما بين كل مرحلة من مراحل الحمل الثلاث وما يليه، تحدث في الجينات ذات العلاقة بوظائف جهاز المناعة، وهو الأمر الذي ربما يعكس دور المشيمة كمُصلِحة ما بين الخلايا المناعية للأم، وبين الجنين.
يتلهف الباحثون - في الوقت الراهن - على فهم التغيرات في مثيلة الحمض النووي في ظروف الحمل، وبعد الهجمات البيئية، مثل التدخين. في حقيقة الأمر، تشير الدراسات بالفعل إلى أن التدخين أثناء الحمل ربما يؤدي إلى تغيُّر في أنماط المثيلة في الحمض النووي المشيمي. وقد أوضحت مجموعة لُو أن بإمكانها القيام بتسلسل ثنائي الكبريتيت للحمض النووي للجنين في عينات الدم، ولكنّ تَعَقُّد عملية الكشف عن الروابط ما بين البيئة وعملية التخلق يجعل من الصعب حتى الآن استخلاص نتائج قاطعة ومحددة من تلك العينات، حسب قول روبنسون. لذا يركز الباحثون في الوقت الحاضر على دراسات النسيج المشيمي.
مسائل أخلاقية شائكة
تطرح الوعود التي تبشِّر بها جميع تلك التقنيات بعض المسائل التي تجب مناقشتها عاجلًا، وليس آجلًا، كما يقول العلماء، وعلماء الأخلاقيات الحيوية، لأسباب معينة، ليس أقلها أن هناك مخاوف بشأن اختبارات ما قبل الولادة غير الجراحية، الموجودة بالفعل في السوق. لقد انتشرت تلك الاختبارات سريعًا، ومنذ أن أصبحت متاحة بشكل تجاري في عام 2011، فإن إجراءها لاكتشاف الكروموسومات الناقصة أو الزائدة (اختلالات الصيغة الكروموسومية aneuploidies) يتم حاليًّا في ما لا يقل عن 90 دولة. وقد خضعت ملايين النساء لتلك الاختبارات.
تقول بيانكي إن اختبار ما قبل الولادة غير الجراحي، للكشف عن اختلال الصيغة الكروموسومية، يُعَدّ تطورًا دراميًّا. فعلى المستوى العالمي، أدى الاختبار إلى انخفاض بنسبة 70% في عمليات التدخل الجراحي، مثل فحص السائل السلوي، التي تحمل مخاطرة محدودة في احتمال أن تؤدي إلى الإجهاض، ولكن ذلك الاختبار ليس بمقدوره تشخيص اختلالات الصيغة الكروموسومية بشكل موثوق، كما تقول بيانكي، فهو بمثابة فحص فقط، ولا بد من استخدام اختبارات تشخيصية أخرى أكثر تدخلًا؛ لمتابعة النتائج. ورغم ذلك، فهناك نساء فضلن إنهاء حملهن فقط على أساس نتائج اختبار ما قبل الولادة غير الجراحي.
قادت تلك النوعية من المخاوف جمعيات عديدة إلى نشر بيانات بمَواقِفها، تقدِّم من خلالها توصيات بشأن كيفية تقديم النصح والاستشارة للمرضى.
ويزداد الوضع غموضًا وضبابية، فالحديث المتداوَل عن عملية التخلق المتوالي في الحمل يحمل في طياته مخاطرة، تتمثل في اعتبار النساء بمثابة كبش فداء، ومسؤولات عن اعتلال صحة أبنائهن عندما يمكن أن تنشأ مشكلات معينة، مثل السِّمنة، وسكر الحمل، مِن جرّاء عوامل كثيرة، بما فيها الفقر، وقلة الحصول على الرعاية الصحية، كما يقول علماء الاجتماع.
ويجب على النساء أيضًا الاستعداد للنتائج غير المتوقَّعة، حسب ما يذكر الباحثون، وليس فقط لِأَجِنَّتهن. ففي العديد من الحالات، كَشَفَ الفحص الجنيني غير الجراحي عن أورام سرطانية، وأمراض لم يتم تشخيصها، مثل الذئبة الحمراء لدى النساء الحوامل. كذلك يكشف التسلسل أحيانًا عن طفرات في الحمض النووي الجنيني، تزيد من احتمالات الإصابة لاحقًا في الحياة بأمراض معينة، مثل سرطان الثدي، أو أمراض التنكس العصبي. يقول الباحثون إن الاختصاصيين في الطب الإكلينيكي عليهم أن يُعِدُّوا ما يمكنهم مشاركته مع المرضى، وخاصة لأنّ وتيرة الاختراعات والاكتشافات التي تسير بسرعة الضوء تفوق قدرة هؤلاء الاختصاصيين على تفسير النتائج.
من الصعب دائمًا الموازنة ما بين الحق في المعرفة، والضرر المحتمَل، الناتج عن اكتشاف وجود متغير للحمض النووي، وخاصة إذا لم يكن بإمكان العلماء التأكد من الأثر الذي سيتركه ذلك المتغير، حسب قول شيندور، الذي يضيف: "إن الأمر سوف يصبح صعبًا وخادعًا بحق"
0 Komentar untuk "التطور المعقد للجنين يبوح بأسراره المخفية منذ أمد بعيد، من خلال التقنيات الجزيئية المتطورة."